تونس إلى أين؟ II - اقتصاديا: السفينة التــائهة

قلنا في مرات عديدة سابقة أن دولة الاستقلال في عهد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كانت تملك مشروعا للبلاد

لا فقط على المستويات الفكرية والمجتمعية والتربوية ولكن ايضا على المستوى الاقتصادي رغم فترات التيه بداية ونهاية. بداية في السنوات الاولى التي عقبت الاستقلال ونهاية في الثمانينات حيث فقدت الدولة بوصلتها الاقتصادية نتيجة صنف خاص من الشعبوية الجزئية انذاك.

ثم ورغم ما يبدو من تعارض بين المشروع الاقتصادي في الستينات مع أحمد بن صالح والمعروف بالاشتراكية الدستورية ومشروع السبعينات مع الهادي نويرة وسياسة الانفتاح الليبرالي، اقتصاديا فقط ، التي مورست إلا اننا امام نوع من الاستمرارية على امتداد عقدي الستينات والسبعينات بفضل وجود دولة مُخَططة (Un Etat stratège) ذات القدرة – النسبية لا محالة – على الاستشراف والانجاز.

لقد فقدت الدولة قدرتها التخطيطية منذ 45 سنة واكتفت في احسن احوالها – زمن حكم بن علي – بالمحافظة على نسق مرضي للنمو ورعاية مرضية للنشاط الاقتصادي لكن دون التمكن من الارتفاع السريع في سلم القيم مما نجم عنه تفاقم الاختلال الجهوي وتفاقم البطالة بشكل لافت في العقد الاول من القرن الجديد في صفوف اصحاب الشهادات العليا لاسيما عند الفتيات.

ومنذ سنة 2011 الى حدّ اليوم ظلت سفينة اقتصادنا تائهة لا وجهة لها ولا تصميم رغم تضخم الشعارات والمخططات وأشباه المخططات.

نقول بداية انه لا غرابة في اهتزاز اقتصادنا بعد 2011 فتلك قاعدة عامة عند كل الدول التي عرفت ثورة او انتقالا ديمقراطيا .. الإشكال عندنا ان هذه الفترة طالت اكثر من اللزوم الى درجة أصبحنا فيها هيكليا في نمو هش لا قدرة لنا على الخروج منه.

لقد كنا نفسّر التيه الاقتصادي في العشرية الاولى للثورة بالتعاقب السريع للحكومات (9 رؤساء حكومات او وزراء أُول من 14 جانفي 2011 الى 25 جويلية 2021 ) اضافة الى الايادي المرتعشة وسياسة رجال المطافئ والبحث عن ارضاء الجميع دون ارضاء أحد والتركيز على اقتسام مغانم السلطة او البحث عن تحالفات انتهازية هشة على حساب الاقتصاد الذي ظل القريب الفقير في تلك العشرية.

وقد اعتقد بعضنا أن «القطع» مع هذه العشرية الاولى ومركزة السلطة التنفيذية بشكل مفرط وتراجع كل اصناف الاحتجاجات الاجتماعية سيفضي حتما الى انعاش الدورة الاقتصادية لكن ذلك لم يحصل الى حد اليوم، وحسب كل التوقعات الجدية فإن ذلك لن يحصل خلال السنوات القليلة القادمة.

ما الذي يفسر هذا التيه المستمر رغم التغيير الجوهري والعميق في النظام السياسي وفي المناخات العامة السائدة في البلاد؟

هنالك مسألة اساسية لابد من الوقوف عندها منذ سنة 2011 وهي انشطار النخب الفاعلة حول طبيعة السياسات الاقتصادية التي ينبغي توخيها.. فالنخب الادارية ونخب المال والأعمال تريد في غالبيتها الساحقة استئناف السياسات الاقتصادية السارية زمن الراحل بن علي مع بعض التحيين والتعديل والإصلاح وفي ذلك تجد هذه النخب مساندة من قبل بعض الاقتصاديين والأحزاب السياسية، اما بقية النخب الاخرى في النقابات والأحزاب وجمعيات المجتمع المدني فتريد القطع الجذري مع هذه السياسات دون ان توضح المضمون العملي لهذه السياسات البديلة مكتفية بشعارات عامة من قبل «استعادة الدولة لدورها الاجتماعي».

لا يمكن البتة الاستهانة بهذا الانشطار لأنه كان من الاسباب التي عطلت بروز رؤية موحدة لمستقبل البلاد واختياراتها الاقتصادية، وقد اخذ هذا الامر شكلا مختلفا ولكنه اكثر حدة منذ 25 جويلية 2021 الى حدّ اليوم اذ انتصر رئيس الدولة بوضوح الى وجهة نظر القطيعة مع اعطاء مضمون لهذه القطيعة يتمثل في محورية الشركات الاهلية في النهوض الاقتصادي ومقاومة البطالة كذلك سيادية القرار الاقتصادي وعدم الرضوخ الى املاءات المؤسسات المالية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.

في المقابل ظلت حكومتا بودن والحشاني في اطار المقاربة الكلاسيكية للدولة لكن دون الجرأة على انفاذها عمليا.

الجديد مع حكومة الحشاني هو السعي الواضح الى تطبيق رؤية رئيس الدولة في ما يتعلق بدعم الشركات الاهلية وتضييق الخناق على بعض رجال الاعمال حتى ينخرطوا في مسار الصلح الجزائي مع اجراء اضخم تدقيق في ظروف انتداب اكثر من 400.000 موظف وعون في الشركات العمومية من 14 جانفي 2011 الى 25 جويلية 2021، لكن كل هذا الجهد والوقت المنفقين في هذه الملفات لم يفضيا الى حد الآن الى نتائج ملموسة بل لعل ذلك فاقم الهشاشة الاقتصادية اذ سجلنا في السنة الفارطة نسبة نمو بـ0.4 % وهي من بين الاسوإ في تاريخ دولة الاستقلال.

وما يفيد عمق التمشي الليبيرالي الكلاسيكي للحكومة رغم سعيها الى الانخراط في سياسة الرئيس، اعدادها لمشروع مجلة الصرف والذي صادق عليه مجلس الوزراء يوم 14 مارس الفارط، قد تم تقديمه حينها كثورة تشريعية كبرى لكن وبعد انقضاء اكثر من شهر ونصف الشهر لم يتم تمرير هذا المشروع الى مجلس النواب بما يفيد عدم رضاء الرئيس عليه.

يبدو ان الانشطار في المجتمع حول طبيعة السياسة الاقتصادية التي ينبغي توخيها قد انتقل الى السلطة التنفيذية ذاتها وكانت نتيجة هذا التجاذب الصامت العطالة والعجز حتى عن مجرد التسيير اليومي للشأن الاقتصادي، ونحن هنا لا نتحدث عن اضطرابات تزويد السوق بالمواد التي تحتكرها الدولة بل بسير مختلف منظومات الانتاج الفلاحية والصناعية والخدماتية والتي تركت في الاغلب الاعم على حالها متخبطة لوحدها في مشاكلها الهيكلية دون بوصلة حكومية واضحة لا للآجل ولا للعاجل كذلك.

فعلا ، لا توجد ريح مواتية لمن لا يدري الى اين يسير

(يتبع)

الحلقة الثالثة والأخيرة:

أخلاقيا اجتماعيا: استفحال أزمة القيم

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115